1435معادن الناساسلام
Written By on Tuesday, 18 November 2014 |
معادن الناس
إن الله قد خلق الأرض وجعلها مليئة بالمعادن المختلفة فمنها النفيس غالي الثمن ومنها الرديء الذي لا يلتفت إليه , ومن المعادن الثمينة المشهورة معدن الذهب والفضة والذي يقل تواجدهما على الأرض , فإن مناجم الذهب على اختلاف مواقعها وكثرتها في العالم إلا أنه لا يزال استخراج هذا المعدن منها قليل وبكميات محدودة , فمن أجل ذلك أتفق العالم على أنه معدن نفيس وله اعتبار جيد ليكون وسيلة نقدية مقبولة للتداول بين الناس ويصلح كوسيط للتعامل عند البيع والشراء , وقد توافق عليهما الناس وتراضوا على نفاسة معدن الذهب والفضة قديما وإلى يومنا هذا .
ولقد أصبح مسمى الذهب والفضة مصطلح دارج على ألسنة الناس في المديح أثناء حديثهم كمن يقول أن هذا الرجل هو من أخيار الناس ويعتمد عليه فهو كالذهب , أي أنه ثقة في أمانته وفي حسن تعامله وعلامة على حسن طويته , وأحيانا يطلقون ذلك على أخلاقه ودينه عموما فسجياه كلها كالذهب , فأصبح وجه الشبه بين بعض الرجال وبين الذهب هو تميزه في جانب الثقة والأمانة كتميز الذهب بين المعادن الأخرى بصفائه وجودته وبراقة لونه الذي يخطف الأبصار , وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تجِدونَ النَّاسَ معادِنَ ، خيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقُهوا ، وتجِدونَ خيرَ النَّاسِ في هذا الشَّأنِ أشدَّ له كراهيةً ، وتجِدونَ شرَّ النَّاسِ ذا الوجهينِ ، الَّذي يأتي هؤلاءِ بوجهٍ ، ويأتي هؤلاءِ بوجهٍ " . رواه البخاري , أشد له كراهية أي النفاق .
إن الإنسان خلق من مادة الطين ومن صفات هذا الطين أنه يحتاج لتحسين نوعيته ليكتسب جودة ويكون ذلك بما يضاف إليه من مواد تكسبه صلاحا وتزيل شوائبه , وفي حق الإنسان تحتاج النفس التي تسكن الجسد إلى مزايا كثيرة لتكتسبها كأخلاق حسنة تتعامل بها مع الناس لتزين ذلك الإنسان وتضيف إلى صلاحه صلاحا , وكذلك يحتاج لتخلية الشوائب عن نفسه وتنقيتها حتى تتهذب صفاته ويزول عنه الخبث الموجود في طينته الأصلية ليصبح بعد ذلك كالذهب الصافي إذا وضع في كفه رجح بمئات الرجال وفاق عليهم.
ولا يطهر الناس من شوائبهم بعد الإيمان أفضل من العمل الصالح الذي يزيدهم تقوى ويعينهم على مخالفة هوى النفس , أما المصائب والبلايا فإنها تمحصهم لتكشف عن معادنهم وتزيدهم إيمانا وتنفي عنهم كل صفة سيئة لتؤكد أن القلب والقالب متفقان فظاهره كباطنه وأنهما طاهران نقيان من كل خبث (مرض ) , فإذا طهرت قلوبهم أرتقت لمنازل الصفوة وصاروا أهلا لحمل الأمانة أي أمانة الدين , قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) محمد (31) , وقال تعالى (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) الفتح (26) , أي أن الموحدين الذين التزموا بكلمة التوحيد أحق بحمل أمانة الدين , وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله .
فلا بد لهذه النفس من التمحيص حتى يتلاشى عنها الكدر العالق بجوهر المؤمن لتطهر نفسه وتظهر محاسنه ويعلوا قدره , فلولا تعاليم الإسلام الذي هذبت المؤمنين وصقلتهم لما برز أمثال أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وباقي الصاحبة رضوان الله عليهم أجمعين , ولولا تهذيب الإسلام لهم لما رضي الله عنهم ورضوا عنه قال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة (100) , إن المؤمنين في هذه الآية الكريمة قد هذبوا أنفسهم من كل شائبة حتى بلغوا منزلة الرضا فرضي الله عنهم وكذلك هم رضوا عنه بما وعدهم وأعد لهم في الآخرة , فهل زكيت يا مسلم نفسك لتكون فيمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
إن النفوس إذا زكت بالإيمان ارتفعت وعلت عن التشبث بالأرض لذلك ذكرها الله في كتابه قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )الشمس (9) أي من أشتغل في إصلاحها , فانظر بتدبر إلى هذه القصة الخلافية البسيطة التي دارت أحداثها بين رجلين من أئمة المسلمين وأنظر كيف تتعامل النفوس الزكية العالية مع بعضها البعض عند حدوث الاختلاف ولو كان بسيطا , فقد جاء في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديثا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :كنتُ جالسًا عِندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بكرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثوبِه، حتى أبدَى عن رُكبتِه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( أما صاحبُكم فقد غامَر ) . فسلَّم وقال : إني كان بيني وبين ابنِ الخطابِ شيءٌ، فأسرَعتُ إليه ثم ندِمْتُ، فسألتُه أن يغفِرَ لي فأبَى عليَّ، فأقبَلْتُ إليك، فقال : ( يغفِرُ اللهُ لك يا أبا بكرٍ ) . ثلاثًا، ثم إن عُمَرَ ندِمَ فأتَى منزِلَ أبي بكرٍ، فسَأل : أثَمَّ أبو بكرٍ، فقالوا : لا، فأتَى إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسلم، فجعَل وجهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتمَعَّرُ، حتى أشفَقَ أبو بكرٍ، فجَثا على رُكبتَيه فقال : يا رسولَ اللهِ، واللهِ أنا كنتُ أظلَمَ، مرتين، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( إن اللهَ بعثَني إليكم فقُلْتُم كذبْتَ، وقال أبو بكرٍ صدَق . وواساني بنفسِه ومالِه، فهل أنتم تارِكوا لي صاحِبي ) . مرتين، فما أوذِيَ بعدَها .رواه البخاري .
هذا الحديث الذي ذكرناه يدور حول خلاف بسيط وقع من أبي بكر في حق عمر حيث تعجل في أمر ما وندم على تعجله فأنظر كيف طلب من عمر المسامحة ولكن عمر في وقته لم يسامح ربما لغضبه ثم ندم عمر بعد ذلك وبحث عن أبي بكر حتى في بيته ليخبره ولم يجده ووجده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مقصد أبي بكر من التوجه لرسول اهيْ صلى اهوا عليه وسلم هو فقط أن يصلح بينهما ولكن رسول الله أراد أمرا آخر أي أنه أراد أن يبين منزلة أبي بكر الصديق وعلو قدره في الإسلام ومناصرته للدين وليس لأحد أن يؤاخذ من كان في منزلة أبي بكر ويتناسى بذله ومواقفه على خلاف بسيط فهو أعلى من كل خلاف يقع منه , وكذلك نستشف من هذا الحديث شفقة أبي بكر على عمر عندما عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه , وكذلك كيف تأدب عمر مع أبي بكر الصديق وإنصاته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عاتبه ولم يتظلم أو يعترض , إن هذه الأخلاق لما تكن تأتي من فراغ من الطرفين المتخاصمين بل جاءت من تربية وتزكية إيمانية مستمرة مع النفس فكان لأولئك الرجال الحق في الصدارة على الأمم والحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتولوا أمانة الأمة من بعده , ولكن العجب في هذا الزمان من يتطاول على قمم شامخة كالشيخين وأمثالهم ويصدر ذلك ممن لا خلاق لهم , أهل النفاق الذين يقدحون في سيرة أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة .
إن خير شيء ينفع لتزكية النفس هو العمل الصالح والمداومة على التقرب بكل عمل يناسب نفسه لتزكيتها , فانظر ماذا كان يفعل أبو بكر لإصلاح نفسه , فقد ذكر الألباني في صحيح الأدب المفرد عن أبي هريرة قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ أصبحَ اليومَ مِنكمْ صائِمًا ؟ قال أبو بكرٍ : أنا قال : مَنْ عادَ مِنكمْ مَرِيضًا ؟ ، قال أبو بكرٍ : أنا قال : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اليومَ جَنازَةً ؟ ، قال أبو بكرٍ : أنا ، قال : مَنْ أَطْعَمَ اليومَ مِسْكِينًا ؟ ، قال أبو بكرٍ : أنا ، قال : ما اجتمعَ هذه الخِصالُ في رجلٍ في يَوْمٍ ، إلَّا دخلَ الجنةَ " حديث صحيح . فأنظر كم كان يجاهد هذا الصديق نفسه حتى أصلحها فرضيت به الأمة ليكون بعد نبيها خليفة له , والعجيب في زمننا هذا أصبح يحلم حتى الرويبضة أن يكون في منزلة أبي بكر الصديق فيتمنى لو يكون أميرا على الناس وربما يرى نفسه أهلا لذلك وقد غرته نفسه حتى ظن أنه بلغ رضوان الله , قال تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ) النجم (32).
وإنك لتعجب عندما يتفرق الناس في أمور كثيرة من الخير يقدمونها ويرون أنهم أحسن من غيرهم وأنهم أنفع للإسلام والمسلمين , بل حتى لو وجد في المجتمع من هو أكثر صلاحا بشهادة الناس وأهل العلم , ومع ذلك فإنهم لا يتركون تحزبهم وتعصبهم ولا يتعاونون مع أخوانهم ولا يتركوا التفرق , بل يزدادون تشبثا يزكون أنفسهم وينحازون إلى تجمعاتهم ويدعون إلى ترك غيرهم والانضمام إليهم , وهذا حاصل ومشاهد في التنظيمات الجهادية والأحزاب السياسية وحتى في الجمعيات الخيرية , فصدق قول الله فيهم , قال تعالى (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) المؤمنون (53), فبدل أن ينظموا جميعا ويتحدوا في كل عمل يخدم الإسلام وبدل تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة , فإنهم يميلون إلى التشرذم والتحزب وهذا كله شر وكله ضعف.
إن أبا بكر لم يكن يتطلع إلى إمامة الناس في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها سيقت إليه سوقا أثناء مرض نبي هذه الأمة , فقد قال صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصلي بالناس , فحينئذ لا يجرؤ أحد من المؤمنين أن يتقدم على أبي بكر في الصلاة فنبيهم زكاه وقدمه على غيره وهو أعلم بمن يقيم لهم دينهم , وكذلك في الخلافة لم يكن أبا بكر يطلب الإمارة لنفسه بل كان يسعى في اجتماع السقيفة لتأمير أحد الرجلين فقال لهم اختاروا إما عمر ابن الخطاب أو أبو عبيدة بن الجراح فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا عنهما , ولكن الله يأبى إلا أن يلبسها أبي بكر الصديق فهو أهلا لها والله ارتضاه لهم وهو أعلم حيث يضع الخلافة , فما بال الناس يطلبون كل شيء لحظوظ أنفسهم وفوق ذلك يبحثون عمن يزكيهم عند الناس وليس شغل أحدهم إلا أن يدرك السيادة على رقاب الناس , وإذا رفضهم الناس شنعوا عليهم وربما حملوا عليهم السلاح وقاتلوهم .
إن على المؤمن الصالح أن يتهم نفسه بالعجز عن حمل أي أمانة تعرض عليه ويدفعها عن نفسه إلى من يرى أنه أقوى على حملها وأصلح إلا إذا أجمع عليه الأخيار وبشهادتهم أنه لا يوجد أحسن منه , ويحذر من اغتراره بنفسه الأمارة بالسوء وعليه أن يعلم أن الله يعلم السر وأخفى وأن ما تعلمه أنت عن نفسك أقل بكثير مما يعلمه الله عنك , فلا تسرف في المديح والثناء على نفسك ولا تبتهج كثيرا بما يقوله الناس من ثناء عليك فلعلك عند الله لا تزن جناح بعوضة , فربما في أقل اختبار وفي أضعف موقف من مواقف البلاء تنكشف رايتك ويظهر ضعفك من بعد سنين كان الناس يستبشرون بك على أنك كالفاروق عمر رضي الله عنه , أسأل الله العظيم أن لا يعرضنا للفتن وأن لا يهتك سترنا وأن يهدي قلوبنا ويعيننا على إصلاح أنفسنا ... والحمد لله رب العالمين .
اسلامى,شرح,ادب,ابداع,منوعات,اسلامية,
معادن الناس,معادن الناس,معادن الناس,معادن الناس
from منتديات الإسلام اليوم http://ift.tt/1xLhb8O
via موقع الاسلام
معادن الناس
إن الله قد خلق الأرض وجعلها مليئة بالمعادن المختلفة فمنها النفيس غالي الثمن ومنها الرديء الذي لا يلتفت إليه , ومن المعادن الثمينة المشهورة معدن الذهب والفضة والذي يقل تواجدهما على الأرض , فإن مناجم الذهب على اختلاف مواقعها وكثرتها في العالم إلا أنه لا يزال استخراج هذا المعدن منها قليل وبكميات محدودة , فمن أجل ذلك أتفق العالم على أنه معدن نفيس وله اعتبار جيد ليكون وسيلة نقدية مقبولة للتداول بين الناس ويصلح كوسيط للتعامل عند البيع والشراء , وقد توافق عليهما الناس وتراضوا على نفاسة معدن الذهب والفضة قديما وإلى يومنا هذا .
ولقد أصبح مسمى الذهب والفضة مصطلح دارج على ألسنة الناس في المديح أثناء حديثهم كمن يقول أن هذا الرجل هو من أخيار الناس ويعتمد عليه فهو كالذهب , أي أنه ثقة في أمانته وفي حسن تعامله وعلامة على حسن طويته , وأحيانا يطلقون ذلك على أخلاقه ودينه عموما فسجياه كلها كالذهب , فأصبح وجه الشبه بين بعض الرجال وبين الذهب هو تميزه في جانب الثقة والأمانة كتميز الذهب بين المعادن الأخرى بصفائه وجودته وبراقة لونه الذي يخطف الأبصار , وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تجِدونَ النَّاسَ معادِنَ ، خيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقُهوا ، وتجِدونَ خيرَ النَّاسِ في هذا الشَّأنِ أشدَّ له كراهيةً ، وتجِدونَ شرَّ النَّاسِ ذا الوجهينِ ، الَّذي يأتي هؤلاءِ بوجهٍ ، ويأتي هؤلاءِ بوجهٍ " . رواه البخاري , أشد له كراهية أي النفاق .
إن الإنسان خلق من مادة الطين ومن صفات هذا الطين أنه يحتاج لتحسين نوعيته ليكتسب جودة ويكون ذلك بما يضاف إليه من مواد تكسبه صلاحا وتزيل شوائبه , وفي حق الإنسان تحتاج النفس التي تسكن الجسد إلى مزايا كثيرة لتكتسبها كأخلاق حسنة تتعامل بها مع الناس لتزين ذلك الإنسان وتضيف إلى صلاحه صلاحا , وكذلك يحتاج لتخلية الشوائب عن نفسه وتنقيتها حتى تتهذب صفاته ويزول عنه الخبث الموجود في طينته الأصلية ليصبح بعد ذلك كالذهب الصافي إذا وضع في كفه رجح بمئات الرجال وفاق عليهم.
ولا يطهر الناس من شوائبهم بعد الإيمان أفضل من العمل الصالح الذي يزيدهم تقوى ويعينهم على مخالفة هوى النفس , أما المصائب والبلايا فإنها تمحصهم لتكشف عن معادنهم وتزيدهم إيمانا وتنفي عنهم كل صفة سيئة لتؤكد أن القلب والقالب متفقان فظاهره كباطنه وأنهما طاهران نقيان من كل خبث (مرض ) , فإذا طهرت قلوبهم أرتقت لمنازل الصفوة وصاروا أهلا لحمل الأمانة أي أمانة الدين , قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) محمد (31) , وقال تعالى (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) الفتح (26) , أي أن الموحدين الذين التزموا بكلمة التوحيد أحق بحمل أمانة الدين , وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله .
فلا بد لهذه النفس من التمحيص حتى يتلاشى عنها الكدر العالق بجوهر المؤمن لتطهر نفسه وتظهر محاسنه ويعلوا قدره , فلولا تعاليم الإسلام الذي هذبت المؤمنين وصقلتهم لما برز أمثال أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وباقي الصاحبة رضوان الله عليهم أجمعين , ولولا تهذيب الإسلام لهم لما رضي الله عنهم ورضوا عنه قال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة (100) , إن المؤمنين في هذه الآية الكريمة قد هذبوا أنفسهم من كل شائبة حتى بلغوا منزلة الرضا فرضي الله عنهم وكذلك هم رضوا عنه بما وعدهم وأعد لهم في الآخرة , فهل زكيت يا مسلم نفسك لتكون فيمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
إن النفوس إذا زكت بالإيمان ارتفعت وعلت عن التشبث بالأرض لذلك ذكرها الله في كتابه قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )الشمس (9) أي من أشتغل في إصلاحها , فانظر بتدبر إلى هذه القصة الخلافية البسيطة التي دارت أحداثها بين رجلين من أئمة المسلمين وأنظر كيف تتعامل النفوس الزكية العالية مع بعضها البعض عند حدوث الاختلاف ولو كان بسيطا , فقد جاء في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديثا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :كنتُ جالسًا عِندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بكرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثوبِه، حتى أبدَى عن رُكبتِه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( أما صاحبُكم فقد غامَر ) . فسلَّم وقال : إني كان بيني وبين ابنِ الخطابِ شيءٌ، فأسرَعتُ إليه ثم ندِمْتُ، فسألتُه أن يغفِرَ لي فأبَى عليَّ، فأقبَلْتُ إليك، فقال : ( يغفِرُ اللهُ لك يا أبا بكرٍ ) . ثلاثًا، ثم إن عُمَرَ ندِمَ فأتَى منزِلَ أبي بكرٍ، فسَأل : أثَمَّ أبو بكرٍ، فقالوا : لا، فأتَى إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسلم، فجعَل وجهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتمَعَّرُ، حتى أشفَقَ أبو بكرٍ، فجَثا على رُكبتَيه فقال : يا رسولَ اللهِ، واللهِ أنا كنتُ أظلَمَ، مرتين، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( إن اللهَ بعثَني إليكم فقُلْتُم كذبْتَ، وقال أبو بكرٍ صدَق . وواساني بنفسِه ومالِه، فهل أنتم تارِكوا لي صاحِبي ) . مرتين، فما أوذِيَ بعدَها .رواه البخاري .
هذا الحديث الذي ذكرناه يدور حول خلاف بسيط وقع من أبي بكر في حق عمر حيث تعجل في أمر ما وندم على تعجله فأنظر كيف طلب من عمر المسامحة ولكن عمر في وقته لم يسامح ربما لغضبه ثم ندم عمر بعد ذلك وبحث عن أبي بكر حتى في بيته ليخبره ولم يجده ووجده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مقصد أبي بكر من التوجه لرسول اهيْ صلى اهوا عليه وسلم هو فقط أن يصلح بينهما ولكن رسول الله أراد أمرا آخر أي أنه أراد أن يبين منزلة أبي بكر الصديق وعلو قدره في الإسلام ومناصرته للدين وليس لأحد أن يؤاخذ من كان في منزلة أبي بكر ويتناسى بذله ومواقفه على خلاف بسيط فهو أعلى من كل خلاف يقع منه , وكذلك نستشف من هذا الحديث شفقة أبي بكر على عمر عندما عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه , وكذلك كيف تأدب عمر مع أبي بكر الصديق وإنصاته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عاتبه ولم يتظلم أو يعترض , إن هذه الأخلاق لما تكن تأتي من فراغ من الطرفين المتخاصمين بل جاءت من تربية وتزكية إيمانية مستمرة مع النفس فكان لأولئك الرجال الحق في الصدارة على الأمم والحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتولوا أمانة الأمة من بعده , ولكن العجب في هذا الزمان من يتطاول على قمم شامخة كالشيخين وأمثالهم ويصدر ذلك ممن لا خلاق لهم , أهل النفاق الذين يقدحون في سيرة أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة .
إن خير شيء ينفع لتزكية النفس هو العمل الصالح والمداومة على التقرب بكل عمل يناسب نفسه لتزكيتها , فانظر ماذا كان يفعل أبو بكر لإصلاح نفسه , فقد ذكر الألباني في صحيح الأدب المفرد عن أبي هريرة قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ أصبحَ اليومَ مِنكمْ صائِمًا ؟ قال أبو بكرٍ : أنا قال : مَنْ عادَ مِنكمْ مَرِيضًا ؟ ، قال أبو بكرٍ : أنا قال : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اليومَ جَنازَةً ؟ ، قال أبو بكرٍ : أنا ، قال : مَنْ أَطْعَمَ اليومَ مِسْكِينًا ؟ ، قال أبو بكرٍ : أنا ، قال : ما اجتمعَ هذه الخِصالُ في رجلٍ في يَوْمٍ ، إلَّا دخلَ الجنةَ " حديث صحيح . فأنظر كم كان يجاهد هذا الصديق نفسه حتى أصلحها فرضيت به الأمة ليكون بعد نبيها خليفة له , والعجيب في زمننا هذا أصبح يحلم حتى الرويبضة أن يكون في منزلة أبي بكر الصديق فيتمنى لو يكون أميرا على الناس وربما يرى نفسه أهلا لذلك وقد غرته نفسه حتى ظن أنه بلغ رضوان الله , قال تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ) النجم (32).
وإنك لتعجب عندما يتفرق الناس في أمور كثيرة من الخير يقدمونها ويرون أنهم أحسن من غيرهم وأنهم أنفع للإسلام والمسلمين , بل حتى لو وجد في المجتمع من هو أكثر صلاحا بشهادة الناس وأهل العلم , ومع ذلك فإنهم لا يتركون تحزبهم وتعصبهم ولا يتعاونون مع أخوانهم ولا يتركوا التفرق , بل يزدادون تشبثا يزكون أنفسهم وينحازون إلى تجمعاتهم ويدعون إلى ترك غيرهم والانضمام إليهم , وهذا حاصل ومشاهد في التنظيمات الجهادية والأحزاب السياسية وحتى في الجمعيات الخيرية , فصدق قول الله فيهم , قال تعالى (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) المؤمنون (53), فبدل أن ينظموا جميعا ويتحدوا في كل عمل يخدم الإسلام وبدل تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة , فإنهم يميلون إلى التشرذم والتحزب وهذا كله شر وكله ضعف.
إن أبا بكر لم يكن يتطلع إلى إمامة الناس في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها سيقت إليه سوقا أثناء مرض نبي هذه الأمة , فقد قال صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصلي بالناس , فحينئذ لا يجرؤ أحد من المؤمنين أن يتقدم على أبي بكر في الصلاة فنبيهم زكاه وقدمه على غيره وهو أعلم بمن يقيم لهم دينهم , وكذلك في الخلافة لم يكن أبا بكر يطلب الإمارة لنفسه بل كان يسعى في اجتماع السقيفة لتأمير أحد الرجلين فقال لهم اختاروا إما عمر ابن الخطاب أو أبو عبيدة بن الجراح فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا عنهما , ولكن الله يأبى إلا أن يلبسها أبي بكر الصديق فهو أهلا لها والله ارتضاه لهم وهو أعلم حيث يضع الخلافة , فما بال الناس يطلبون كل شيء لحظوظ أنفسهم وفوق ذلك يبحثون عمن يزكيهم عند الناس وليس شغل أحدهم إلا أن يدرك السيادة على رقاب الناس , وإذا رفضهم الناس شنعوا عليهم وربما حملوا عليهم السلاح وقاتلوهم .
إن على المؤمن الصالح أن يتهم نفسه بالعجز عن حمل أي أمانة تعرض عليه ويدفعها عن نفسه إلى من يرى أنه أقوى على حملها وأصلح إلا إذا أجمع عليه الأخيار وبشهادتهم أنه لا يوجد أحسن منه , ويحذر من اغتراره بنفسه الأمارة بالسوء وعليه أن يعلم أن الله يعلم السر وأخفى وأن ما تعلمه أنت عن نفسك أقل بكثير مما يعلمه الله عنك , فلا تسرف في المديح والثناء على نفسك ولا تبتهج كثيرا بما يقوله الناس من ثناء عليك فلعلك عند الله لا تزن جناح بعوضة , فربما في أقل اختبار وفي أضعف موقف من مواقف البلاء تنكشف رايتك ويظهر ضعفك من بعد سنين كان الناس يستبشرون بك على أنك كالفاروق عمر رضي الله عنه , أسأل الله العظيم أن لا يعرضنا للفتن وأن لا يهتك سترنا وأن يهدي قلوبنا ويعيننا على إصلاح أنفسنا ... والحمد لله رب العالمين .
اسلامى,شرح,ادب,ابداع,منوعات,اسلامية,
معادن الناس,معادن الناس,معادن الناس,معادن الناس
from منتديات الإسلام اليوم http://ift.tt/1xLhb8O
via موقع الاسلام
from موقع الاسلام (رسالة الحق والسلام) http://ift.tt/1AbYA96
via IFTTT

0 comments:
Post a Comment